في وقت مضى، كان الناس يتفرجون على الحكومات وهي تختطف الدولة ويجلسون على مقاعدهم بانتظار التصريحات الرسمية لتطمئنهم على أحوالهم، كانوا يهللون “للأُعطيات” ويودعون “حامليها” بالتصفيق والدعاء، كانوا “راشدين” بما يكفي للانصراف وقت الطلب، ويبدأون صباحهم على وقع القناعة والرضا بالقدر والمكتوب، كانوا يعدّون للعشرة قبل ان يتحدثوا في “السياسة” ويعدّوا “للألف” قبل أن يخرجوا للشارع وللمليون قبل أن يهتفوا ضد الفساد.
الآن بفضل الربيع العربي، تغيرت الصورة: الناس ترسل والحكومات تصغي وتستقبل، الشعوب تقرر والحكومات تنفذ، الشارع ينتصب واقفا “والنخب” السياسية تحاول أن تحتضنه، هو يمشي ويتحرك وهي تلهث خلفه، هو يحدد السقوف والأجندات وهي تلتقط صوته وتردد صداه وتقدم أوراق اعتمادها لتحظى بالقبول.
من قال إننا لم نتغير؟ ومن قال ان الربيع العربي لم ينبت أعشابا في صحارينا الفاصلة؟ تصور كيف سقطت “النخب” التي كانت تتوهم أنها تعرف أكثر من الناس، وكانت تحدد رغباتهم ومصالحهم، وتتوكل بالنيابة عنهم “لتكييف” الدولة على مزاجها، تصور كيف سقطت مقولات “المسؤول” الذي يعظ ويزجر، ويتقدم “للإمامة” الوطنية، ولا يجد أحدا يقول له: أخطأت، أو “ينسحب” من الصف احتجاجا عليه، تصور كيف تبددت أوهام “العطايا” وإعلانات الشكر على “الواجب”، بالمناسبة هل يفترض أن يشكر الناس “حكوماتهم” بمناسبة أو بدون مناسبة؟
بفضل الربيع العربي، اكتشفت الشعوب أن لها “دولة” تريد استعادتها، وان لها “أصواتًا” خرجت من “الحبس” الذي أُودعت فيه، وان لها كرامة يمكن ان “تضحي” بكل شيء من اجل استردادها، واكتشفت –أيضا- أنه ليس بينها “مدسوسون” ولا وراءها جهات خارجية وبأنها في الساحات أفرزت افضل ما لديها، من نخوة ووحدة واحساس بالوطن والتصاق بالتراب، اكتشفت ايضا ان الحكومات يجب ان تقوم على خدمتها لا ان “تتطوع” هي للتصفيق للحكومات حتى لو كانت غير “رشيدة”.
لم يكن ما حدث بسيطا فما ان زلزلت الارض زلزالها حتى خرجت “ملفات أُودعت في الأدراج، وانكشفت “أسرار” كانت مخبوءة، ووقف ضحايا كثيرون ليحاكموا “سجانيهم” وتحول “مواطنون” من قفص الاتهام والحبس الى “مسؤولين” يجلسون على كراسي من لفقوا لهم التهم.
ولم يكن ما حدث مفاجئا الا لمن يريد ان يعاند التاريخ، فقد بلغت الحكومات اوج استهتارها بالناس واستعلائها عليهم، ووصل الاستبداد الى أقصى ما يمكن ان يصل اليه، وكذلك اليأس والإحباط والقهر.. لم يبق امام الناس الا “أصواتهم” الغاضبة، فقد جرب بعضهم العنف وفشل، وجرب اخرون الصبر فعيل بهم، وجرب غيرهم “الدعاء” لكن السماء لا تمطر “ذهبا” ولا إصلاحا، فاعتمدوا على الله ثم على أصواتهم هذه التي كانت مجرد تهمة لامتهم حيث وصفت “بالظاهرة الصوتية” لكنها فعلت أفاعيلها، وأسقطت أفكارا ونخبا وحكومات ايضا.
في وقت مضى كانت “الدولة” قد تماهت في الحكومة وكانت “النخب” قد أكرهت الناس على توقيع “وكالات” تحت تصرفها، لكن الآن انقلبت الصورة وأصبحت الشعوب هي من يقرر “شكل الدولة” ويتحدث باسمها.. ومن يحاسب “النخب” فيعاقبها او يكافؤها، ومن يقول “الكلمة” الأخيرة.. ويظل واقفا يحملق في كل اتجاه.
إذن، تحيا الشعوب التي ولدت من جديد واستبدلت فصولنا “بربيع طويل” سقته بالدماء والتضحيات.. وزرعت “شهداءه” في حقولنا ياسمينا.. وديمقراطية.
التعليقات0
إرسال تعليق